فصل: تفسير الآيات (24- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)}.
كرَّرَ عليه السؤالَ في غير آية من عصاه لمَّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة.
ويقال إنما قال ذلك لأنه صَحِبَتْهُ هيبةُ المقام عند فَجْأَةِ سماعِ الخطاب، فَلِيُسَكِّنَ بعضَ ما به من بَوَادِهِ الإجلال... رَدَّهُ إلى سماعِ حديث العصَا، وأراه ما فيها من الآيات.
ويقال لو تركه على ما كان عليه من غَلَبَاتِ الهيبة لعلَّه كان لا يعي ولا يطيق ذلك.... فقال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}.
قال هي عصاي وأخذ يُعدِّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له:
{قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى}.
فإنَّك بنعت التوحيد، واقفٌ على بساط التفريد، ومتى يصحُّ ذلك، ومتى يَسْلَمُ لك أن يكون لَكَ معتمدٌ تتوكأ عليه، ومستند عليه تستعين، وبه تنتفع؟
ثم قال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}: أَوَّلُ قَدَمٍ في الطريق تَرْكُ كلِّ سَبَبٍ، والتَّنَقِّي عن كل طَلَبٍ؛ فكيف كان يَسْلَمُ له أن يقول: أَفْعَلُ بها، وأمتنع، ولي فيها مآرب أخرى.
ويقال ما ازداد موسى عليه السلام تفصيلًا في انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأَوْلَى بأن يؤمن بإلقائها، والتنقي عن الانتفاع بهاعلى موجب التفرُّد لله.
ويقال التوحيد التجريد، وعلامةُ صحته سقوط الإضافات بأْسْرِها؛ فَلا جَرَمَ لما ذكر موسى عليه السلام ذلك أُمِرَ بإلقائها فجعلها اللَّهُ حَيَّةً تسعى، وولَّى موسى هاربًا ولم يُعَقِّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة؛ إذا كوشِفَ صاحبُها بِِسِرِّها يهرب منها.
ويقال لمَّا باسطه الحقُّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يُسْأَل وعمَّا لم يُسْأَل فقال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}: وذَكَرَ وجوها من الانتفاع؛ منها أنه قال تؤنسني في حال وحدتي، وتضيءُ لي الليلَ إذا أظلم، وتحملني إذ عَييتُ في الطريق فأركبُها، وأَهُشُّ به على غنمي، وتدفع عني عَدَوِّي. وأعظم مأربٍ لي فيها أَنَّكَ قُلْتَ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} وأيةُ نعمةٍ أو مأربٍ أو منفعةٍ تكون أعظمَ مِنْ أَنْ تقولَ لي: وما تلك؟ ويقال قال الحقُّ- بعد ما عدَّد موسى وجوَه الآياتِ وصنوفَ انتفاعِه بها- ولَكَ يا موسى فيها أشياءٌ أخرى أنت غافلٌ عنها وهي انقلابُها حيةً، وفي ذلك لك معجزةٌ وبرهانُ صِدْقٍ.
ويقال جميعُ ما عَدَّدَ من المنافع في العصا كان من قِبَلِ الله.... فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه، ولهذا قالوا:
يا جنَّة الخُلْدِ والهدايا إذا ** تُهدَى إليك فما مِنْكِ يُهْدَى

ويقال قال موسى لها رآها حيةً تهتز: لقد عَلِمْتُ كلَّ وصفٍ بهذه العصا، أَمَّا هذه الواحدة فلم أعرفها.
{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)}.
لا عِبْرةَ بما يوهِمُ ظاهرُ الأشياء؛ فقد يُوهِمُ الظاهرُ بشيءٍ ثم يبدو خِلافُه في المستقبل؛ فعصا موسى صارت حيةً.
ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آيةً ومعجزةً لا بلاءً وفتنةً.
قوله: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} أَشْهَدَه- بانقلاب العصا من حالٍ إلى حال؛ مرةً عصا ثم ثعبانًا ثم عصا مرةً أخرى- أَنَّه يُثَبِّتُ عِبادَه في حال التلوين مرةً ومرةٌ؛ فَمِنْ أَخْذٍ ومِنْ رَدَّ، ومن جَمْعٍ ومن فَرْقٍ إلخ.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}.
كما أراه آيةً من خارج أراه آيةً من نَفْسِه، وهي قلْبُ يَدِه بيضاءَ؛ إِذْ جَعَلَها في جيبه من غير البَرَص. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا في الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} [فصلت: 53].
وإنما قال: أَدْخِلْ يَدَكَ في جيبِك ولم يقل كُمِّك لأنه لم يكن لِمَا عليه من اللِّباس كُمَّان.
قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الكُبْرَى}: الآية الكبرى هي ما كان يجده في نفسه من الشهود والوجود، وما لا يكون بتكلُّفِ العبد وتصرُّفهِ من فنون الأحوال التي يدركها صاحبُها ذوقًا. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 35):

قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فكأنه قيل: لماذا يفعل بي هذا؟ فقيل: لنرسلك إلى بعض المهمات {اذهب إلى فرعون} أي لترده عن عتوه: ثم علل الإرسال إلية بقوله، مؤكدًا لأن طغيان أحد بالنسبة إلى شيء مما للملك الأعلى مما يستبعد: {إنه طغى} أي تجاوز حده من العبودية فادعى الربوبية، وأشار إلى ما حصل له من الضيق من ذلك بما عرف من أنه أمر عظيم، وخطب جسيم، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح قلب ضابط كما صرح به في سورة الشعراء- بقوله: {قال رب اشرح} أي وسع {لي} ولما أبهم المشروح ليكون الكلام أوكد بتكرير المعنى في طريقي الإجمال والتفصيل، قال رافعًا لذلك الإبهام: {صدري} للإقدام على ذلك، وإلى استصعابه بقوله: {ويسر لي} ثم بين ذلك الإبهام بقوله: {أمري} وإلى استعجازه نفسه عن الإبانة لهم عن المراد بقوله: {واحلل} ولما كان المعنى هنا ما لا يحتمل غيره إذ إنه لم يسأل بقاءه في غير حال الدعوة، عدل عن طريق الكلام الماضي فقال: {عقدة من لساني} أي مما فيه من الحبسة عن الإتيان بجميع المقاصد من الجمرة التي وضعها في فيه وهو عند فرعون، كما نقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما-، ولما كان سؤاله هذا إنما هو الله، ولذلك اقتصر على قدر الحاجة فلم يطلب زوال الحبسة كلها، أجابه بقوله: {يفقهوا قولي} وإلى اعتقاد صعوبة المقام مع ذلك كله بطلب التأييد بنصير يهمه أمره بقوله: {واجعل لي} أي مما تخصني به؛ وبين اهتمامه بالإعانة كما يقتضيه الحال فقدم قوله: {وزيرًا} أي ملجأ يحمل عني بعض الثقل ويعاونني {من أهلي} لأني به أوثق لكونه عليّ أشفق، ثم أبدل منه قوله: {هارون} وبينه بقوله: {أخي} أي لأنه أجدر أهلي بتمام مناصرتي؛ وأجاب الدعاء في قراءة ابن عامر فقال: {اشدد} بقطع الهمزة مفتوحة {به أزري} أي قوتي وظهري {وأشركه} بضم الهمزة مسندًا الفعلين إلى ضميره على أنهما مضارعان، وقراءة الباقين بوصل الأول وفتح همزة الثاني على أنهما أمران، مسندين إلى الله تعالى على الدعاء {في أمري} أي النبوة.
ولما أفهم سؤاله هذا أن له فيه أغراضًا، أشار إلى أنها ليست مقصودة له لأمر يعود على نفسه بذكر العلة الحقيقية، فقال: {كي نسبحك} أي بالقول والفعل بالصلاة وغيرها {كثيرًا} فأفصح عن أن المراد بالمعاضدة إنما هو لتمهيد الطريق إليه سبحانه.
ولما كان التسبيح ذكرًا خاصًا لكونه بالتنزيه الذي أعلاه التوحيد، أتبعه العام فقال: {ونذكرك} أي بالتسبيح والتحميد {كثيرًا} فإن التعاون والتظاهر أعون على تزايد العبادة أنه مهيج للرغبات؛ ثم علل طلبه لأخيه لأجل هذا الغرض بقوله: {إنك كنت بنا بصيرًا} قبل الإقامة في هذا الأمر في أنك جبلتنا على ما يلائم ذكرك وشكرك، وأن التعاضد مما يصلحنا، وكل ذلك تدريب لمن أنزل عليه الذكر على مثله وتذكير بنعمة تيسيره بلسانه ليزداد ذكرًا وشكرًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}.
المسألة الخامسة:
إنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثًا إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعًا فكان ذكره أولى.
قال وهب: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي: وقل له قولًا لينًا لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، في كلام طويل، قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)}.
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفًا شاقًا فلا جرم سأل ربه أمورًا ثمانية، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء.
المطلوب الأول: قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة.
والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، وقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي، وقيل: شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور.
أحدها: فائدة الدعاء وشرائطه.
وثانيها: ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب.
وثالثها: ما معنى شرح الصدر.
ورابعها: بماذا يكون شرح الصدر.
وخامسها: كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وسادسها: صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحًا أو لم يكن منشرحًا، فإن كان منشرحًا كان طلب شرح الصدر تحصيلًا للحاصل وهو محال، وإن لم يكن منشرحًا فهو باطل من وجهين:
الأول: أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يُوحَى} [طه: 13] ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيرًا وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر.
والثاني: أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء؟ فهذا مجموع الأمور التي لابد من البحث عنها في هذه الآية.
أما البحث الأول: وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] إلا أنه نذكر منها هاهنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول: اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملًا في ذاته مكملًا لغيره، أما كونه كاملًا في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته، وكل ما كان كذلك كان كاملًا في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملًا في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملًا وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال، فإنه لو كان حاصلًا في الأزل لاستحال التأثير فيه، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه، وإن كان كاملًا في الأزل إلا أنه يصير مكملًا فيما لا يزال، فإن قيل: إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملًا في الأزل فقد كان عاريًا عن صفات الكمال فيكون ناقصًا وهو محال، قلنا: النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكنًا في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصانًا، كما أن قولنا: إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصانًا لأنه غير ممكن الوجود في نفسه، وكقولنا: إنه لا يعلم عددًا مفصلًا كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب.
أحدها: أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود.
وثانيها: أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادرًا على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال، فكان ذلك وإن كان كمالًا للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز.
وثالثها: أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان: أحدهما: أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، فتكون أيضًا الضيافة ضيافة للأقل، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له، وهذا لا يكون وجودًا.
الثاني: أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل؟ وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثًا وهو محال كما قيل:
يعطي ويمنع لا بخلًا ولا كرمًا.. وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين.
والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} [الأعراف: 156] ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض، فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض.
والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم، فعند ذلك صار بعض الموجودات حيًا مدركًا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك: يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفًا لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى، فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود.